top of page

وطن يُبنى حول صحن ملوخيّة



بالقرب من ساحة فيتينبيرغ القريبة من كودام، مركز برلين الغربيّة، وفي منزل صغير ذو سقف واطئ، في بناء شُيّد خلال مرحلة إعادة إعمار برلين بعد الحرب العالميّة الثانيّة (ربّما كانت أبنيّة هذا الشارع قد بنيت في خمسينيات وستينيات القرن المنصرم)، مكوّن من غرفتين صغيرتين، عشت لسنتين؛ شهور ستة عشتها لوحدي، وسنة ونصف تشاركت فيها البيت مع صديق سوري.


وأنا أعيش في ذلك البيت، بدأت خطواتي الأولى في برلين. كنتُ أمشي أحيانًا حافيًا في شوارعها وأقول لمن حولي: هكذا أخلق ارتباطًا دائمًا بيني وبين هذه المدينة. إلى ذلك البيت كنتُ أعود كلّما تهت في شوارع المدينة وحاراتها وباراتها ونواديها الليليّة. وهناك كنتُ أجتمع مع أصدقائي؛ القُدامى منهم والجُدد، السوريون والألمان والمنتمين لجنسيات مختلفة.


كنتُ، وما زلت، أحبّ دعوة الناس إلى بيتي، ربما يرتبط الأمر بنشأتي في بيتٍ عامرٍ بالضيوف والموائد، وللصدفة كان شريكي في السكن يحبّ دعوة الناس كذلك، ويحبّ أن يصنع طعامًا، مثلما أحبّ أنا. كثيرًا ما تعاركنا بسبب رغبتنا المشتركة في أن نطبخ لضيوفنا، أنا أريد أن أصنع طعامًا ما، وهو يريد أن يصنع غيره. كنّا نتنافس على جودة ومذاق طبخ كلّ منّا.


كيف نجهّز صحن المسبّحة في بلاد باردة؟


لأنّ المسبّحة، أو الحمّص كما يسميها سكّان العالم من غير الدمشقيين، من أساسيات المائدة، صرنا نصنعها في بيوتنا. لا أتذكر أنّ بيت عائلتي، أو أي بيت آخر أعرفه في سوريا، قد صنع المسبّحة في البيت، ففي كلّ زاوية من زوايا سوريا فوّال أو حمصاني، يبيعنا، ويطعمنا، ويزوّدنا بما نحتاج إليه.


هنا، في هذه البلاد الباردة، اكتسبنا مهاراتٍ جديدة في الطبخ، صرنا نجهّز المسبّحة في البيت، ولذلك طريقتان، واحدة معقدة، والأخرى سهلة تتّبعها الغالبيّة.


الطريقة المعقّدة تعتمد على شراء الحمّص الحَبْ اليابس ونقعه بالماء ليوم أو أكثر، ومن ثمّ سلقه، ثمّ طحنه، قبل إضافة بقية المكوّنات إليه. أمّا الطريقة الثانية، فتعتمد على شراء علب الحمّص المطحون الجاهز، وهذه سهلة، فدكاكين العرب والأتراك تنتشر في أوروبا، وتبيعنا ما نحتاج إليه في غربتنا عن بلادنا، وعن طعام بلادنا.


نفتح علبة الحمّص المطحون، ونضعها في وعاء ما، ثمّ نضيف إليه الطحينة والكمّون والليمون وزيت الزيتون والسمّاق وأحيانًا بعض الثوم. هذه وصفة صديقي وسيم، أما أنا فأفعل مثلما يفعل، وأضيف بعض اللبن الرائب، وهذه لمستي الخاصة التي يرفضها كلّ من عرفها، وإن لم يعرفوا قالوا هذه أطيب مسبّحة في العالم، فاللبن الرائب يغيّر قوام المسبّحة، ويضيف إليها نكهةً خاصةً، لكنهم لا يعلمون.


فاشية الطعام!


في برلين مطاعم من بلاد العالم كلّها، من البرازيل وتشيلي وصولًا إلى الصين واليابان مرورًا ببلاد كوكبنا الصغير كلّها، ومَن مثلي يُحبّ الطعام وتجربته يزور مطاعم كثيرة كي يختار ذائقته، فصرتُ أعرف أنّ هذه الفاشية لا تنفع؛ فاشيّة قول إنّ طعام بلادي أطيب من طعام البلدان الأخرى (يقول كثيرون، من مختلف دول العالم، ذلك).


فعلى الرغم من فخر الشام بأنواع الفتّات التي تصنعها، لكن أطيب فتّة بحمص، يصنعها مطعم لبناني صغير في شارع زونن آليه، أو شارع العرب، وهو دكان صغير فيه بضع طاولات لم يغيّرها، في الغالب، منذ افتُتح المطعم.


أمّا الفطائر، ففي مطعم آخر يقع على بعد مئة متر من مكان الفتّة، والشاورما والدجاج البروستد من مطعم دمشقي يقع في شارع كارل ماركس، وقد يكون طعامه أطيب من الطعام في دمشق نفسها. الحلويات دمشقيّة أو حمْصيّة، وفي برلين عددٌ كبير من المحال المختّصة ببيعها. والكبّة ومشتقاتها حلبيّة على الرغم من صعوبة الحصول على كبّة طيّبة في برلين.

الدجاج المشوّي تركي، وفي حي كرويتزبيرغ بعض المطاعم الشهيرة المختصّة بتقديم هذا النوع من الطعام، والسلطات والمازة لبنانيّة، وبرلين ممتلئة بمطاعم لبنانيّة. وأمّا الأرز وما يأتي معه من لحومات، فكرديّة وإيرانيّة، وأعرف مطعمًا كرديًا عراقيًا في حيّ كرويتزبيرغ يقدّم أشهى أنواع البرياني والقوزي ولحم الضأن.


الباستا والبيتزا إيطاليّة طبعًا، وفي برلين عددٌ كبير من المطاعم الإيطاليّة، والدجاج المطبوخ بالكاري، وما يشبهه، باكستاني، وبجانب بيتي أحد هذه المطاعم... هكذا إلى ما لا نهاية.


لا فاشيّة في الطعام، كلّ طعام لذيذ إذا ما عرف صانعوه كيف يصنعونه، والله أعلم!


ملوخيّة الاندماج


كان الطعام طريقنا إلى صنع وطن صغير دافئ خاص بنا في غربتنا الباردة. كنّا ندعو الأصدقاء والصديقات في كلّ يوم تقريبًا ونطبخ لهم طعامًا سوريًا (أو أقول شرق أوسطي؟)، ونتبادل الكلام حول المائدة العامرة بأصناف الطعام، نشرب ونحشّش ونأكل ونحكي عن ذكرياتنا وعن طفولتنا وعن بلادنا ونتبادل تجاربنا المتشابهة في غربتنا المستمرة.


كنّا نطبخ الملوخيّة والشاكريّة ونلف ورق العنب ونحشي الكوسا والباذنجان بالأرز واللحم ونصنع مقبلات الطعام من مسبّحة ومتبل وسلطات مختلفة ونشوي الدجاج بعد أن نحيطه بشرائح البطاطا والبصل والفلفل، وكذا كثير من الطعام الذي لم نكن نعرف كيف نصنعه حين كنّا نعيش في بيوت أهلنا، لكن العيش بعيدًا عن بيت العائلة مُعلّم.


حول هذه المائدة توثّقت علاقاتنا فصرنا أكثر من عائلة، تقاربنا فصارت هذه المائدة نواة وطننا المفترض الذي بنيناه سويّة، طبخة طبخة وكأسًا كأسًا. صارت هذه المجموعة (بعض أفرادها ثابتين وكنّا سبعة، وبعضها متغير) دائرة الأمان التي احتجنا لها في سنوات غربتنا الأولى. صرنا سندًا نتكئ عليه حين نتعب من حياة ألمانيا القاسية. صرنا لبعضنا البعض ملجئً آمنًا، قبل أن تتبعثر طرقنا، لكن معظمنا ما يزال يحتفظ بذاكرة تلك العلاقة، وبعضنا ما يزال ينظر إلى هذه الدائرة كدائرة الأمان الخاصة به.


ليس هذا فقط، بل حول هذه الموائد، اجتمعنا مع أصدقائنا الجدد، المنتمين لجنسيات مختلفة، وكثير منهم ألمان. حول موائدنا شرحنا لهم عن الملوخيّة، وقلنا لهم الفرق بين الفتة الدمشقيّة والفتة البيروتيّة، وحكينا عن الصراع الحمصي الحموي على حلاة الجبن.


هكذا عَبَّدَ الطعام طريقنا نحو الاندماج في المجتمع الألماني، صار أصدقاؤنا الألمان يعرفوننا عن طريق طعامنا، أو الأجدى بي القول، صاروا يعرفون حكايات عنّا وعن بلادنا وعن عائلاتنا عن طريق طعامنا، وصرنا نعرف أكثر عن ألمانيا والعادات الألمانيّة من خلال أحاديث الأصدقاء الألمان وهم يتناولون الشاكريّة والأرز.


هكذا بنينا وطنًا صغيرًا حول صحن ملوخيّة.. وطنًا صغيرًا يتسع لنا، لا يزيد ولا ينقص.


١٨ مشاهدة٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل
bottom of page