@ رصيف22
في أحد مشاهد الذورة، في فيلم "الآخر، المنتج في العام 1999، يضرب بطل الفيلم آدم (هاني سلامة) زوجته حنان (حنان الترك)، وهما من عاشا قصة حبّ تحدا فيها الفروقات الطبقيّة التي تفصلهما، وذلك لأنّ آدم غضب من مقالٍ كتبته زوجته الصحفيّة تهاجم فيه عائلته الفاسدة. بعد أن يضربها يقوم باغتصابها (الاغتصاب الزوجي جريمة يعاقب عليها قانون عدد كبير من الدول، وحسب التعريفات المختلفة فإنّ الاغتصاب الزوجي هو شكل من أشكال العنف المنزلي والاعتداء الجنسي).
تبكي حنان وتنهار وتعود إلى أمها. تدور أحداث الفيلم، الذي أخرجه أحد أبرز مخرجي السينما المصري، المخرج "الطليعي" يوسف شاهين، ويتصالح الزوج مع الزوجة وكأن شيئًا لم يكن، ومن ثمّ يعملان معًا ضد العائلة الفاسدة. لكن لا عقوبة رادعة للزوج، وتطبيع كامل في علاقة الرجل المتحكم بالمرأة، يعنفها ويضربها ويغتصبها متى غضب، وعندما يهدأ تسامحه لأنّه زوجه ويحبها. في نهاية الفيلم يموت الحبيبان في مشهد يذكّر بمشهد انتحار روميو وجولييت في مسرحية وليم شكسبير، لم يخفِ يوسف شاهين حبه الجامح للكاتب المسرحي الإنجليزي في معظم أفلامه.
يمرّ العنف الأسريّ الموجّه ضدّ المرأة، ويمرّ الاغتصاب الزوجي في الفيلم بعاديّة مطلقة، وكأنّ هذا من الأشياء التي تحدث (يجب أن تحدث) يوميًا. ليس فيلم يوسف شاهين وحده من يظهر ذلك. أفلام ومسلسلات وبرامج عربيّة أكثر من أن تُحصر، تُظهر العنف الأسري بشكل طبيعي عادي لا مشكلة فيه.
في دائرة مغلقة، يُعاد إنتاج هذا العنف في المجتمعات العربيّة، لتقوم الأفلام والمسلسلات بإعادة تصوير هذه المشاهد بشكل عادي وبطبيعيّة مفرطة، ليُعاد إنتاج هذا العنف في البيوت، فتعود الأفلام والمسلسلات إلى إعادة تصويرها، وهكذا.
يأتي هذا في وقت ترتفع فيه معدلات العنف ضدّ المرأة في البيوت، حتى صارت بيوت العائلة أشدّ المناطق خطرًا على المرأة، ومقتل الشابة السوريّة التي ضربها زوجها وأهلها حتى الموت منذ أسابيع قليلة في دمشق مثال على العنف المستشري ضدّ المرأة في بلادنا.
لا قوانين تحمي المرأة، ولا مجتمعات تتكافل لتخليص النساء اللاتي يعانين من هذا العنف، ولا مهرب حتى وإن قطعن البحار والبلدان ووصلن إلى أوروبا. "غبن قانوني ومجتمعي في آن، ونقص فادح في الدعم الحكومي في الدول التي نشأن فيها، ومحدوديّة أو غياب مؤسسات المجتمع المدني، التي يمكن أن يلجأن إليها، حوّلهن إلى ضحايا مزمنات، وعطّل آلية طلب المساعدة لديهن" حسب تقرير لموقع بي بي سي عن العنف الأسري الذي تعاني منه لاجئات ومهاجرات في "بلاد الحريّات". على سبيل الذكر لا الحصر، في إيرلندا قتل رجل أردني زوجته في بداية هذا العام.
لكن ليست المرأة العربيّة، هي المرأة الوحيدة التي تعاني من العنف الأسري، فمثلًا أظهر انتشار فيروس كوفيد-19 والحجر المنزلي الذي فُرض، ازديادًا هائلًا في نسب العنف ضدّ النساء في البيوت وفي أعداد النساء المقتولات على أيدي أزواجهن في أوروبا.
بحسب تقارير صحفيّة وبيانات للأمم المتحدة فإنّ "نحو 34 ألف امرأة يقضين سنويًا حول العالم على أيدي أزواج حاليين أو سابقين أو أفراد آخرين من الأسرة"، ويبلغ المعدل اليومي لقتل النساء حول العالم، على الأقل 82 امرأة مقتولة يوميًا.
حين نأتي لنقف ضدّ هذا العنف المُمارس ضدّ النساء، الحلقة الأضعف في معظم الأُسر، وننتقد ما يفعل المعنِّفون، ونقول: "إنّ كلّ العنف المُمارس على النساء، سواء من عنف نفسي ولفظي وجسدي، يصل إلى حدّ القتل في أحيان كثيرة، هو مبني بالأساس على عقليات ذكوريّة ترى بأنّ لها السلطة والسيطرة الكاملة على النساء"، يُقال إنّنا نقف ضدّ العائلة وضدّ الطبيعة البشريّة، وما إلى هنالك من كلام إنشائي لا معنى له.
في ستينيات القرن الماضي، نشأت حركات طلابيّة يساريّة في مختلف دول العالم، ولا سيما ألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكيّة، مطالبة بالحقوق المدنيّة وبوقف حرب فيتنام وبغيرها من مطالب تغييريّة في سياسات المؤسسات الحكوميّة والتعليميّة، حينها توجّه النقد بشكل شديد إلى هذه الحركات وأُظهر اليسار الطلابي كتهديد يواجه المجتمع.
في رد المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي على هذه الانتقادات، ورد في حوار نُشر في كتاب "عن الطبيعة الإنسانيّة" الصادر عن دار التنوير، يقول: "وبشكل مستمر يتم في النقاشات والأدبيات التي تتعامل مع هذه الفترة- التي يطلق عليها أحيانًا «زمن المتاعب» أو شيء من هذا القبيل- تصوير اليسار الطلابي كإنذار يهدِّد حريّة البحث والتعليم؛ ويقال إنّ حركة الطلاب وضعت حرية الجامعات في خطر بسعيها إلى فرض الرقابة الإيديولوجيّة الشموليّة. هذه هي طريقة مثقفي رأسماليّة الدولة في وصف حقيقة أن رقابتهم شبه الكاملة على الأيديولوجيا قد تعرّضت للمساءلة بشكل محدود، في حين يسعون مجدّدًا إلى سدّ الثغرات الصغيرة في نظام الرقابة على التفكير، ولعكس العملية التي من خلالها صعد تنوع محدود داخل المؤسسات الأيديولوجيّة: الإنذار الشمولي لفاشية اليسار! وهم مقتنعون حقًا بذلك، إلى درجة أن التزاماتهم الأيديولوجيّة تغسل أدمغتهم وتتحكّم فيهم. يتوقع المرء ذلك من البوليس، ولكن عندما يأتي هذا من المثقفين، يبدو مُستغربًا جدًا."
يُمكننا تطبيق المبدأ نفسه على التعامل مع العنف الموجّه ضدّ النساء. يُقال إنّ حركات دعم النساء والحركات النسويّة والدفاع عن حقوق النساء وبالتالي عن حقوق الإنسان، يُشكل تهديدًا للمجتمعات وللقيم، وإنّ هذا الدفاع يضع الأسرة، التي تشكّل النواة الأولى في المجتمع، في خطر التفكك.
أولئك الذين يقولون ذلك مقتنعون بذلك حقًا، إلى "درجة أن التزاماتهم الأيديولوجيّة تغسل أدمغتهم وتتحكم فيها"، أولئك لا يعون إنّ ما يقومون به يساهم في ازدياد العنف ضد النساء، وضدّ الفئات المُستضعفة الأخرى، وإنّ دفاعهم عن "الأسرة وقدسيتها" قد يؤدي إلى مقتل نساء بسبب ضرب الزوج أو الأخ أو الأب أو ابن العم.
كيف يُمكن أن نقنع هؤلاء، أنّ الدفاع عن حقوق النساء ليس ترفًا ولا هدمًا للأسرة، بل هو تطلع نحو مستقبل أفضل لنا جميعًا: مستقبل حرّ عادل وكريم في عالم مفتوح غير مقيّد بأيّ قيد أو حدّ؟ كيف نقنعهم إنّنا ولدنا في مجتمعات (لا سيما مجتمعاتنا العربيّة والكرديّة) تحرم النساء من أبسط حقوقها، وإنّنا نتعلم أنّ الرجال أفضل من النساء وأقوى، في الشارع والمدرسة والبيت والأفلام والمسلسلات ودروس الدين؟
كيف نُقنع أولئك الذين ينتقدون دفاعنا عن حقوق النساء، إنّ المساواة والعدالة هي حق كلّ الناس؟ كيف نقنع الرجال ذوو الامتيازات، التي حصلوا عليها بمجرد ولادتهم ذكورًا، إنّ القضية ليست نساء فقط، رغم أنّ الضحايا نساء (مع عدم نسيان ضحايا مجتمعات الميم-عين)، وإنّ القضيّة مجتمعيّة تمسّ كلّ الأشخاص؟
لا يوجد حلّ آني لمشكلات العنف في المجتمع، ولا سيما العنف ضدّ النساء، الطريق طويل، والحلول مُعقّدة، وتعتمد على وجود قوانين وتشريعات تحفظ الحقوق وتساوي بين جميع الأفراد بغض النظر عن جنسياتهم وجنسهم ولونهم وخلفياتهم واعتقاداتهم. وبالتأكيد الحل ليس سهلًا، فالقضايا مركّبة ومتقاطعة، فيها من الطبقيّة والرأسماليّة وعنف الدولة الشيء الكثير، لكن أيضًا يجب علينا كأفراد، ولا سيما الرجال، أن نحكي عن الأمر في دوائرنا الشخصيّة، وأن نعلّم بعضنا ونحكي عن أخطائنا، وأن لا نقبل ظهور العنف العائلي والاغتصاب الزوجي في الأفلام والمسلسلات كأمر عادي، وطبيعي لا عواقب له. كلّ هذا فقط كي نصل إلى عالم أفضل من هذا الذي نعيش فيه، حيث تُقتل النساء، فقط لأنهنّ نساء.
تعليقات