@ الحياة 2015
لولا الخراب الذي يحيط بنا لما عرفتُ بأنّنا في كوباني، صوت المدينة في الصباح هو ضجيج المدن السوريّة الصغيرة في أيامها العادية مضافاً إليه صوت بعض الآليات التي تنظف الدمار، وصوت مولدات الكهرباء الصغيرة التي تفترش الشوارع أمام الأبنية والمحال غير المهدمة.
كوباني ضجّ العالم بأخبارها خلال الشهور الماضيّة وزارها حوالى ثمانمئة صحافي من معظم دول العالم لتغطية ما جرى فيها، وفق ما قال أحد العاملين في اتحاد الإعلام الحر- فرع كوباني وهي الجهة المخولة مساعدة الصحافيين غير المحليين.
الطريق إلى كوباني
الطريق إلى كوباني طويل ومعقد. أوقفتنا الشرطة التركيّة في مطار غازي عينتاب وسألتنا إن كنّا متوجهين إلى سورية أو إلى العراق، أطلقوا سراحنا بعد أن صوروا جوازات سفرنا.
استقللنا وسائل النقل العامة كونها أكثر أماناً ولأنّ الجنوب التركي غير آمن بالنسبة إلى الأجانب، فقد علمنا بعمليات خطف قامت بها بعض الجهات لمصلحة تنظيم «داعش» وبخاصة في محيط مدينة أورفا.
بعد انتظار دام ثلاثة أيام غادرنا هذه المدينة ليلاً باتجاه كوباني، في سيارة تضم سبعة صحافيين وصلنا إلى قرية شرق كوباني بعيدة من خط النار مع «داعش» مسافة ثلاثة أو أربعة كيلومترات كما قيل لنا. انتظرنا هناك في منزل أحدى العائلات التي تساعد الصحافيين والناشطين في قطع الحدود من دون مقابل.
هذه القرية تحرّرت من قبضة «داعش» منذ أقل من عشرة أيام. في الصباح تجولنا فيها، عائلات قليلة عادت كما عاد بعض الرجال من دون عائلاتهم. الجدران ما زالت مليئة بكتابات «داعش». استطعنا الحصول على ثلاثة كتب خلّفها عناصر «داعش» وهي «معجم الصحاح» و»قصة ممو وزين» وكتاب «القيم السياسيّة في الإسلام».
نقلونا بسيارة أخرى إلى كوباني حوالى الظهر، استغرق الطريق نحو ساعة. كانت جدران البيوت القليلة التي اجتزناها مسرحاً لحرب بين أنصار القوات الكرديّة وبين عناصر داعش، فكلّما سيطر طرف على حائط خطّ شعاراته عليها. إشارات الطرق وأسماء القرى كانت مرمزة ومكتوبة كما تركتها الحكومة السوريّة، كموقف القائد الخالد حافظ الأسد في مدخل كوباني، لكنّنا علمنا لاحقاً من إدريس نعسان المتحدث باسم لجنة إعادة الإعمار بأنّ بلدية كوباني ستعمل على إعادة تسمية المدن والقرى بأسمائها الحقيقيّة، أي الأسماء المحليّة لا الأسماء المعرّبة، وسيتم كتابة هذه الأسماء باللغتين العربيّة والكرديّة.
وصلنا إلى كوباني بعد ظهر اليوم الخامس لرحلتنا.
لاجئو كوباني في جنوب تركيا
لجأ حوالى مئة وثمانين ألفاً من سكان مدينة كوباني وما حولها إلى المدن والقرى المقابلة في جنوب تركيا، هذا العدد وفق تأكيد السيدة زُهال إكماز رئيسة بلدية مدينة سروج والتي قالت لنا إنّ مدينة سروج تلقت مساعدات من الحكومة التركيّة مقدرة بحوالى 500 ألف ليرة تركيّة (ما يعادل حوالى 250 ألف دولار أميركي) وتلقت مدينة أورفا حوالى تسعة ملايين ليرة تركيّة (ما يعادل أربعة ملايين دولار أميركي). لم تقدم أورفا ربع ما قدمته مدينة سروج لنجدة لاجئي كوباني كبما قالت السيدة زُهال والتي أرجعت السبب إلى أنّ الحزب الحاكم في سروج هو حزب HDP وهو الحزب الكردي المناصر لكرد سورية بينما الحزب الحاكم في أورفا هو حزب AKP وهو حزب السيد رجب طيب أردوغان. بُنيت سبعة مخيمات لنجدة الفارين من حرب كوباني خمسة منها أسستها الأحزاب الكرديّة وإثنان كانا من نصيب الحكومة التركيّة، المخيمات الكرديّة التي زرناها توافرت فيها موارد الحياة الرئيسيّة من ماء وكهرباء وغذاء وحمامات.
اللافت كان وجود لاجئين عرب في كردستان باكور (كردستان تركيا) كما وجود محال تجارية كُتب عليها باللغة العربية لتسهيل معاملة اللاجئيين العرب الفارين من الحرب السوريّة، إضافة إلى المساعدات المجانية التي يقدمها الأهالي للاجئين السوريين باختلاف قومياتهم.
كوباني المدينة
استقبلتنا المدينة بدمارها الهائل، حوالى ستين إلى ثمانين في المئة من المدينة مدمر وفق تقديرات حكومة إقليم كوباني وعلى لسان رئيس بلديتها صادق علي دمر المعروف بأبو بوطان.
كوباني أخذت اسمها من شركة السكك الحديدية الألمانية التي قسمت المدينة إلى نصفين، نصف يقع في سورية وآخر في تركيا وفق إحدى الروايات.
ستة أحياء مدمرة في شكل كلّي وبقية الأجزاء مهدمة في شكل جزئي، تقريباً كل بيوت المدينة من دون نوافذ، وعلى هذا الأساس تشكلت لجنة إعادة الإعمار والتي بدأت عملها في شكل فعلي بعد يومين من التحرير الذي تمّ في 27 كانون الثاني (يناير) من العام الحالي.
تشكلت ثلاثون لجنة لكشف الخراب العام في المدينة وفي أربعمئة قرية محيطة عاش فيها قبل الحرب حوالى أربعمئة ألف نسمة، مئتان وخمسة وسبعون ألفاً منهم سكان أصليون والباقون نازحون من مدن الرقة وحلب بعد 2012. عدد سكان مدينة كوباني قبل هذا التاريخ كان يقارب الخمسين ألف نسمة كما استقبلت المدينة أكثر من مئة ألف نازح من الهاربين من جحيم الحرب في مدنهم وقراهم، هذا العدد الكبير جداً نسبة إلى حجم المدينة أدى إلى زيادة عدد الأبنية المخالفة قبل بدء الحرب مع «داعش»، وفق ما قاله لنا المهندس المعماري نظمي محمد والمسؤول عن تقييم وضع الخراب في المدينة.
إعادة إعمار المدينة
الكم الهائل من الخراب أدى بحكومة الإقليم إلى طلب المساعدة من كلّ الجهات كما حصل حين عُقد في شباط (فبراير) الماضي اجتماع مع منظمات مجتمع مدني في مدينة غازي عينتاب التركيّة، أو كما حصل في مؤتمر إعادة إعمار كوباني الذي أقيم في مدينة ديار بكر في بداية أيار(مايو) الجاري، وهو مؤتمر يضم أطرافاً قادمين من المناطق الكردستانيّة الأربع إضافة إلى بعض الضيوف وسيكون هذا المؤتمر نواة لعقد مؤتمر دولي لإعادة إعمار المدينة، كما قال لنا أنور مسلم رئيس المجلس التنفيذي لمقاطعة كوباني.
معظم المساعدات الواصلة إلى كوباني حتى الآن قدمت من قبل المدن الكرديّة في تركيا وخصوصاً مدينتي ديار بكر وسروج وفق قول إدريس نعسان رئيس لجنة إعادة الإعمار والذي أكد في حديثه لنا بأنّ نسبة تسعة في المئة من اقتصاد إقليم الجزيرة الغني يرسل إلى كوباني لمساعدتها. كما أن بعض المنظمات والجمعيات المدنية الدوليّة قدمت بعض الخدمات والمساعدات، كما لفت نعسان إلى أنّ كوباني لم تتلق أي مساعدة من جهات المعارضة السوريّة كالائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السوريّة مثلاً.
مؤتمر ديار بكر سيحدد كذلك وفق قول نعسان مشروع المتحف الذي تود الحكومة إنشاءه والذي يقول بالحفاظ على دمار بعض أجزاء المدينة كما هي كي تبقى ذكرى هذه الأيام خالدة في المدينة مذكرة الأجيال القادمة بالتضحيات التي قُدمت لتحرير المدينة، وهذا ما يقابل اعتراضاً شديداً من قبل الأهالي سكان هذه المناطق.
بلدية كوباني
المجموعات العاملة في بلدية كوباني كانت تعمل تطوعاً لعدد من الأشهر وبدأت بأخذ راتب لا يزيد عن مئة دولار قبل شهر ونصف شهر من تاريخ وصولنا وفق قول «معمو» أحد العاملين في فرقة تنظيف الجثث من الشوارع.
هذه الفرقة تعمل كلّ يوم في تنظيف المدينة من الجثث. رافقنا هذه الفرقة خلال يوم عمل بدأ في السابعة صباحاً، كانوا قد عرفوا الأماكن التي سيتوجهون إليها بناء على اتصالات من أهالي المدينة يخبرون بها عن جثث أو أجزاء من جثث تتفسخ وتبعث رائحة خانقة. كان فريق العمل يتألف من ثلاثة أشخاص إضافة إلى سائق بلدوزر وسائق عربة لنقل الجثث. خلال مدة العمل التي استغرق حوالى أربع ساعات أحصينا تسع جثث وبعض أجزاء من جثث أخرى تم تجميعها ونقلها خارج المدينة لدفنها في مدافن جماعيّة. المقبرة كانت تضم تقريباً ثمانمئة وتسعين جثة أحصاهم محسن والذي يعمل مع «معمو» ورفيق آخر منذ انتهاء العمليات العسكرية في كوباني في تنظيف المدينة، والذي قال: «نحن أفضل منهم، هم كانوا يمثلون بجثث مقاتلينا ونحن ندفن جثثهم، نحن مسلمون أكثر منهم».
فتح الشوارع وتنظيف المدينة من الخراب عمل لا يقل أهميّة. فالدمار الهائل يتطلب آليات ضخمة لإزالتها وهو شيء غير متوافر في كوباني، ما استوجب الاستعانة ببلديات المدن الكردية في تركيا والتي بدورها زوّدت كوباني ببعض الآليات التي توفر الحد الأدنى المطلوب.
الردم يرمى في واد قريب يقع خارج حدود المدينة باتجاه محافظة حلب. في زيارتنا إلى هناك برفقة رئيس البلدية أبو بوطان وجدنا بعض مستلزمات الحياة اليوميّة بين أكوام الحجارة كما وجدنا بعض مفروشات البيوت تلوّن تلال الدمار الهائلة.
عملت البلدية كذلك على إعادة تشغيل الفرن الآلي إضافة إلى توفير المحروقات وبعض المواد اللازمة للبناء بأسعار معقولة مقارنة بأسعار بعض تجار الأزمة وفق قول أحد أصحاب المحال التجارية.
القنابل غير المتفجرة هي مشكلة أخرى كبيرة تواجه عمال بلدية كوباني كما سكانها، فقد فقدت المدينة حوالى خمسة وأربعين مدنياً بين قتيل وجريح بسبب الألغام التي زرعها «داعش» قبل أن يغادر كوباني، كما أن عدم وجود خبرات للتعامل مع مثل هذه الأمور يسبب مشكلات جمة للبلدية، وذلك ينسحب على بقية المؤسسات.
مياه المدينة في معظمها هي مياه آبار بيتيّة حفرها المواطنون في منازلهم خلال سنتي الحصار المفروض من قبل تنظيم داعش، والبلديّة تعمل حالياً وفق أبو بوطان لإعادة تشغيل مشروع المياه الذي كانت قد عملت عليه سابقاً وتوقف نتيجة الحرب المفروضة.
المدارس
تستهل السيدة أمينة محمد مديرة مدرسة الشهيد عثمان سليمان التي اُفتتحت مؤخراً في كوباني حديثها بالقول إن أجمل شعور من الممكن أن يعيشه أستاذ المدرسة الكردي هو أن يناديه الطالب في الصف «ماموستا» والتي تعني أستاذ بالكردية، إذ لم يكن هذا ممكناً في ظل نظام البعث.
مدرسة الشهيد عثمان سليمان هي ثاني مدرسة عادت للعمل في المدينة، بانتظار افتتاح مدرسة ثالثة قريباً، وهي مدرسة ابتدائية عدد الطلاب الذين يحضرون الدروس فيها، في الدوامين الصباحي والمسائي، يبلغ حوالى ألف طالب.
يصطف التلامذة في الباحة صباحاً، لا يرددون النشيد الوطني السوري أو أي نشيد آخر، لا شعارات حزبيّة ولا أوامر عسكريّة كما اعتاد الطلاب السوريون، يتوجهون إلى صفوفهم بعد أن يحيّوا الكادر التدريسي، وتبدأ الدروس باللغتين الكردية والعربية. المواد الدراسية العامة كالعلوم والرياضيات والتاريخ والجغرافية تُدّرس باللغة العربية إضافة إلى منهاج اللغة الكردية الذي يدرس للطلاب الكورد.
مستشفيات المدينة
المستشفى العسكري هو المستشفى العامل في شكل كامل على مدار الساعة في المدينة وهو يعالج العسكريين المصابين في الجبهات والصحافيين الأجانب، وهو مستشفى بدائي يفتقر إلى أدنى أدوات السلامة الطبية، وهو تحت الأرض في مدرسة سابقة. أُنشئت المستشفى كنقطة طبية خلال المعارك العنيفة التي جرت في المدينة خلال الأشهر الماضية.
الهلال الأحمر الكردي أنشأ مركزاً طبياً لمعالجة المدنيين. المركز يفتح أبوابه في الصباح الباكر وحتى ساعات الظهر. وعند سؤالنا أحد الأطباء عن مدى اعتراف المنظمات العالميّة بالهلال الأحمر الكردي أجاب بوضوح أنّ هذه المنظمة غير معترف بها في شكل رسمي لكنها تتلقى بعض المساعدات من الصليب الأحمر الهولندي والصليب الأحمر الدنماركي وهم يسعون للحصول على الاعتراف الدولي الكامل.
فضلاً عمّا سبق فإنّ منظمة أطباء بلا حدود تقوم بتجهيز مستشفى خاص يخدّم المدنيين في المدينة، كما علمنا أنّ هناك مستشفى مدنياً آخر سيفتتح لاحقاً.
الصيدليات هي أكثر المحال الموجودة في المدينة، تقريباً في الشوارع الرئيسية يمكنك أن تصادف صيدلية كل مئة متر. معظم الدواء كان موجوداً في مستودعات هذه الصيدليات قبل المعارك وبعض الأدوية تم تهريبها من قبل الأهالي القادمين من تركيا.
Comentarios