@ رصيف22
ولد هاتف جنابي، الشاعر والمترجم، في العراق، سنة 1952. نشأ وتعلّم في مدارس العراق، وفي سنة 1976 توجّه نحو بولندا، لإكمال دراسته، ومن ثمّ للعيش فيها. منذ ذلك التاريخ، يعيش جنابي بشكل رئيسي في بولندا. أصدر عدداً كبيراً من الدواوين الشعرية المكتوبة باللغتين العربية والبولندية، بالإضافة إلى ترجمته المستمرّة بين اللغتين، مقدّماً إلى اللغة العربية أبرز وجوه الشعر البولندي، كما قدّم الشعر العربي إلى اللغة البولندية.
هاتف جنابي مسكون بالعراق، وبأرض الشرق، على الرغم من عيشه لسنوات طويلة جداً بعيداً عن البلاد التي وُلدَ فيها. يقول في حواره مع رصيف22، إنّه يعيش بين لغتين تشكّلان هويته: "اللغة هي الهوية، وعلى ما يبدو أنّها تساهم إلى حدّ كبير بما لا يمكن تخيّله للوهلة الأولى من دون معايشةٍ فعلية، في تشكيل الهوية القومية والنفسية والثقافية والمتخيّلة، والعلاقات بين أفرادها".
حاور رصيف22 جنابي، لأهميته الشعرية والثقافية أولاً، ولأنّه يُشكّل حالةً خاصةً في المشهد الثقافي العربي في أوروبا، حتى يكاد يكون، وحده، جسراً يربط الثقافة العربية بالثقافة البولندية، وهذا نص الحوار.
في قصيدة قديمة (سيرة نبهان-الحلقة المفقودة)، التي كُتبت سنة 1978، يقول جنابي: لكن في غمضة عين ينهض من مقعدهِ/ ليمزّق ما كنّا نبحث عنه، يشتتنا/ في أصقاعٍ مهجورة/ الشرق/ الشرق يعود إلينا في زي غربي/ يجلس في مقصورةٍ/ من خشب الصاج/ نبهان يجيء وحيداً يطرق الباب الملعون/ نبهان القمري يجيءُ مليئاً بالصدف البحري/ وبالعسل الجبلي/ نبهان غزالٌ هارب/ يبحث عن مأوى في أرض الشرق.
تعيش في بولندا منذ سبعينيات القرن الماضي، وتقول في أحد حواراتك السابقة إنّ بداياتك عراقية، لكن نهاياتك مفتوحة. ما الذي تقصده بذلك؟ وما الذي يربطك بالعراق بعد كلّ هذه المدّة من العيش في بولندا؟
الوطن كالأم يمكنك أن تغيب عنها قصيراً أو طويلاً، لكنها تظل أُمّاً. الفارق فقط هو أنّ الوطن مفهوم كبير تدخل فيه عوامل كثيرة، بعضها طاردة والأخرى جاذبة، يستعر إوارها أو يخفّ، حسب النظم السياسية والاجتماعية والدينية السائدة.
مشكلة الغائب أنّه كلّما طالت فترة غيبته اشتدّ حنينه، وكلّما ازداد ضيق أفق الآخرين في الجهة الأخرى، اتّسعت رقعة ذلك الحنين. أسوأ ما في هذه الحالة، الإفراط فيها، الذي ربما يقود إلى فقدان البوصلة، والحياد عن الهدف الأسمى في رؤية الأمور بوضوحٍ وعقلانية.
في هذه الأثناء تبقى بعض الأوطان ماحقةً لأبنائها، وهنا تكمن مأساة المواطن السوي في مواجهة ماكينة المحق التي يقودها غير الأسوياء، وما السجون والاعتقالات التعسفية والقتل وحرمان الأكفاء من حق العمل، ومسلسل الهجرة هروباً، إلّا علامات دالّة على ما نقول.
الإنسان بطبيعته كائن يحبّ الحرية في رقعة مكانية اختارها أو اختارتها المقادير له ملجأً. يمكن أن ينتمي الكائن البشري إلى أكثر من مكان، لكن "ما الحبُّ إلا للحبيب الأوّل..."! استناداً إلى هذا الفهم وهذه الرؤية قلت: إن بداياتي عراقية لكن نهاياتي مفتوحة، بمعنى مشرّعة على كافة الاحتمالات والخواتيم.
بولندا هي الوطن الثاني المختار من قِبل القدر، وقفَتْ معي في زمن المحن والضياع، في فترة عصيبة جداً من حياتي التي أراد الجانب المظلم من العراق أن يمحقها، ويحوّلها إلى تراب. بولندا في الواقع الملموس شكّلت حيزاً معتبراً في أطلس هويتي الثقافية. بفضل أوراقها الرسمية أتجوّل حراً بين البلدان، بحثاً عن الحقيقة والجمال، وعن الآخر المشابه، وأتعرّف إلى نفسي أكثر، وأنا رسول مؤثّر لتعدديتي الثقافية.
الترحال يشكّل بعضاً من الهوية. عدم استسلامي وبصيص الأمل الذي أحمله في داخلي أنّى رحلت وأقمتُ، جعلاني متماسكاً وحيّاً حتى هذه اللحظة. أنا رجل عاطفي بسيط وعنيد للغاية، كنخلةٍ شامخة وجبلٍ عصي. في طلب الحقيقة والمعرفة، لا أعرف الاستسلام طالما كان الحق معي.
اليوم أقيم في إنكلترا من أجل عائلتي الصغيرة ليس إلّا، بعد سنوات من العمل الشاق على نفسي والآخرين، وما أسسته إبداعياً وثقافياً هناك. من هذا الفضاء الجديد أعدّ خيوطي، وأحيك ما تبقى من خريطة حياتي، أزرع وأسقي بستاني حتى ينبثق فجر جديد يغشي جمالُه العيون.
في سؤال متعلق بالسؤال الذي سبقه، هل ترى بولندا "منفىً" أو "غربةً" بعد هذه السنوات كلها؟ هل العراق وطنك؟ كيف تشرح هوياتك المتعدّدة؟
لقد أجبت على هذا السؤال إلى حدّ ما. وللمزيد سأقول، العراق وطني الأصلي الذي أحمله وأعشقه وضحيت وتشردتُ من أجله وبسببه، وبولندا وطني أيضاً بحكم استضافتها الطويلة لي، وبناءً على "الانتماء المكتسب" جرّاء الإقامة الطويلة منذ آب/ أغسطس 1976، وحتى وقت قريب. وإذا ما اقتطعنا منها بضع سنوات موزعة بين الجزائر وأميركا حيث كنت أحاضر في الجامعة، وفترة ترحال بين بولندا والعراق والمملكة المتحدة، تكون النتيجة نحو تسع وثلاثين سنة. بهذا المعنى تكون بولندا "وطناً مكتسباً"، و"منفى مُقدّراً"، و"غربةً" كما كانت في العراق، لكنها من نوعٍ آخر غير مألوف سابقاً، لأنّ بعض البولنديين لا يشعرونني بأنّني منتمٍ إليهم تماماً، مستندين إلى رابطة الدم والولادة واللغة بالولادة أساساً، لتقييم البولندي من سواه.
تبقى "غربة اللغة" قاسيةً للغاية. مقابل كلّ ما ذكرته أقول، في عالمٍ متعدد الأقطاب والرؤى والمصائر والانتماءات، يمكن للمرء أن يجد نفسه خاضعاً لا إرادياً إلى شبكةٍ من الانتماءات والهويات. أنا إنسان حسّاس. كنت وما زلت أبحث عن أناسٍ يُشبهونني في براءتهم واحترامهم للآخر المختلف، شرط أن يتّصف بصحة الضمير والنبل والتسامح. عثرت في أثناء تطوافي عبر العالم، وبالتحديد إقامتي في بولندا، عن أشباهي. مع ذلك أشعر بأنّني لا أشبه أحداً، ولا حتى نفسي التي كنتُها سابقاً. حتى ديواني الشعري الأخير جاء بعنوان "لا يُشبه نفسه".
تكتب الشعر باللغتين، العربية والبولندية، وتترجم بين اللغتين، وتكاد تكون جسراً يربط الثقافة العربية بالثقافة البولندية. ونعرف أنّ العربية والبولندية لغتان من أصعب لغات العالم. كيف ترى الاختلاف بين هاتين اللغتين؟ وما أهمية اللغة في حياتك؟
العربية والبولندية لغتان مختلفتان تماماً ومعقّدتان إلى حدّ ما. البولندية هي إحدى أصعب ثلاث لغات في أوروبا بعد الفنلندية، والمجرية، لكنها لغة غنية بمفرداتها واشتقاقاتها وشعرها، وهي على عكس ما يُشاع، ليست لغةً محدودةً تماماً، لثلاثة أسباب على أقل تقدير، هي، أولاً، حجم البولنديين المنتشرين في أرجاء المعمورة غير القليل، وثانياً، إن ثقل الثقافة البولندية أدباً وفناً ومعرفةً، يساهم في ذيوع صيتها وانتشارها. ثالثاً، هناك لغات سلافية يمكنك أن تتعلمها، أو تتفاهم مع أبنائها بيسرٍ إلى حد ما.
العربية لغة سامية كالآرامية والعبرية والأمهرية، في حين أن البولندية لغة سلافية، وهي في الأساس هندو-أوروبية. والثقافة البولندية مختلفة تماماً عن العربية، لأنّ مرجعيتها تعود إلى الثقافة اليونانية القديمة، واللاتينية، والغربية، والإرث المسيحي.
المشتركات بين اللغتين هي في الهموم الإنسانية، وبعض القيم المستقاة من الثقافة الأوروبية، ولربّما من الكتب السماوية، لكن كلّاً منهما خطّت طريقها بشكل مغايرٍ في التعبير عن الطموحات والمشاعر والحاجات الفردية والاجتماعية والثقافية والفكرية والمعتقدية، بنكهة الناطقين بها، وتحت تأثير بيئتهم.
أمّا أنا، "العبد الضعيف"، فألفيت نفسي بين كمّاشتين لغويتين معقّدتين لا رابط بينهما. اللغة هي الهوية، وعلى ما يبدو أنّها تساهم إلى حدّ كبير بما لا يمكن تخيّله للوهلة الأولى، من دون معايشة فعلية، في تشكيل الهوية القومية والنفسية والثقافية والمخيلية، والعلاقات بين أفرادها، ولولا أهميتها لما قيل سابقاً "من تعلّم لغةَ قوم أمِنَ شرّهم".
في السنوات الأخيرة، عادت العربية من جديد لتتلبّسني بقوة، وكما كانت كتابةً وخيالاً. الشيء نفسه حدث مع شعراء وكتّاب مغتربين سبقوني، كالشاعر البولندي تشيسواف ميووش، وهربرت، وكثيرين ممن كانوا يعرفون لغاتٍ عديدة، لكنهم وظّفوا لغاتهم الأصلية في مسيرتهم الإبداعية، وكأنّ على الدائرة أن يكون لها مسك ختام يتناغم والبداية.
استخدام اللغة الأم في الشعر والقصة والرواية، ذو مغزى عظيم، وهذه الممارسة تختلف عن تلك التي يقوم بها الأكاديميون في أثناء عملهم في الجامعات الأجنبية. الكتابة الأدبية لغة تحدد انتماء صاحبها الفعلي. يبدو لي أنّ اللغة تلتقي مع الشعور بالانتماء القومي والجغرافي ليشكلا معاً أسس الهوية التي إذا بولغ في تحقيقها، ستفتح بوابات الجحيم.
كيف تشرح علاقتك بالثقافة العربية، وأنت بعيدٌ عنها، على الأقل جغرافياً؟
البعد لا يُفسد في الودّ قضيةً، لكنه قد يُلحق ضرراً بـ"طزاجة" معايشة أحاسيس الناس اليومية، وبلوغ ما هو كائن وراء اللغة، وما يحمله الخطاب اللغوي-الثقافي من خفايا. الكلمات مهمة للغاية، بيد أنّها لا تعوّض عن رائحة الناس، وحركة الشارع وأنفاس المجتمع. ببساطةٍ، اللغة تتجدد تلقائياً حتى بأشكال غير ملموسة. ثمّة نهر ومهارة في السباحة لمسافات طويلة، لكن فعل السباحة غائب في حالة البعد. أنا متابع لكثير من مفاصل الثقافة العربية، ربما ما عدا تفاصيل الأخبار والصحافة. من دون شك لا تصلني معظم الكتب والدواوين الشعرية، باستثناء ما يُهدى إلي منها في المناسبات، أو على شكل كتبٍ إلكترونية، وهذه الطريقة في القراءة صارت تتعبني جداً مؤخراً، ولهذا تراني أتجنّبها قدر المستطاع.
عملياً أحمل الثقافة العربية بوجهها الإيجابي لا غير، أينما رحلت وأقمت، وأحمل العراق بتعدديته الثقافية والإثنية وهواجس أبنائه الطيبين فحسب، وطموحاتهم، وأفراخهم، وأتراحهم، بين جوانحي. أصعب ما قد يصل إليه المنفي أو المغترب، هي تلك النقطة المتسعة كثقبٍ أسود في الفضاء، أعني أن يُعامَل كالغريب من قبل الطرفين: أبناء الوطن الأم، والوطن المكتسب. إنّها حالة وجودية رهيبة ليس أسوأ منها سوى العيش معلَّقاً بين المطارات مدى الحياة. سبقنا في وصف ما يقارب ما أقول، بألف وخمسمئة سنة، الشاعر طرفة بن العبد في معلّقته، قائلاً:
وما زال تشرابي الخمورَ ولذّتي وبيعي وإنفاقي طريفي ومُتْلَدي
إلى أن تحامتني العشيرةُ كلها وأُفردتُ إفرادَ البعير المعبّد
كيف تتابع أخبار العراق الثقافية والسياسية، أقصد بأي عين ترى إلى العراق اليوم؟
أرى العراق منذ خمسين سنة يختزن الأمطار والرعود، والبياض والسواد، ومعول هدمٍ في مواجهة صخورٍ هائلةٍ صلدة لا تلين، وأصيح في الحلم واليقظة: أيها الوادي الغارق في وحل السيول، لا تدع المياه تذهب سدى، والطين يغطّي العيون.
هناك أمل بالآتين، بالمغتسلين في نهري الرجاء من دنس النفاق والكذب وسماسرة المتاجرة بالمصائر، وهذا التاريخ الحضاري الغائر في القدم، أملي ذات يوم أن يروا أنفسهم بأعينٍ مشرعة على المستقبل لا على الماضي.
أتابع ما بوسعي، وأحياناً أكفّ عن المتابعة، بغية الحفاظ على توازني النفسي. عبر عقودٍ، جعلنا بلد السواد رهائن لمغامرات الطغاة واللصوص والدجالين، كناعور يسكب الماء في ثقوب وسيعة لا قرار لها، بينما البساتين والحقول تتشقق عروقها من شدة العطش.
ثقتي كبيرة بما يكتنزه العراقيون من الأجيال الجديدة، لأنّ واقع الحال الراهن رهيب. العراق لا ينتج فكراً فاعلاً الآن، ولا زرعاً متمدداً عرضاً وطولاً مقابل التصحّر، ولا ثقافة رصينة تأسيسية، لأنّها ثقافة العناد والمحاولات الفردية التي لم تدخل إلى أعماق المجتمع عمودياً، لأنّها تشغل حيزاً أفقياً. لا يمكن لأي قوة في الكون أن تدمّر بلداً متماسكاً إذا لم يجد قفازاتٍ داخلية له، وهذا الأمر يرعبني حقاً.
بعد سنوات طويلة من العمل في المجال الثقافي، وفي الكتابة والترجمة، وبعد سنوات طويلة في تشكيل هويتك الثنائية العراقية البولندية، كيف ترى حياتك عندما تنظر إلى الخلف؟ هل كنتُ ستغيّر شيئاً إذا ما أُتيحت لك الفرصة لتغيير شيء ما في حياتك السابقة؟
أعود إلى الماضي شعراً ونثراً وخيالاً، أتذكّر كلّ واردة وشاردة تقريباً مررتُ بها. لمرحلة الطفولة، والبيئة التي نشأت فيها، تأثير عليّ يلاحقني كظلي. لاحظْ كثافةَ حضور الطبيعة التلقائي في شعري، واستدعاء النباتات والحيوانات والطيور والسهول والجبال والنخيل والبراري في حركاتها وسكناتها، وعريها وغناها.
حينما ترد كلمات متناقضة كالماء والجفاف، والحقول الخضراء والبساتين والصحراء، والحب والكره، والحياة والموت، والنبالة والنذالة، والجمال والقبح، وهلمّ جرّاً، فإنّها لا تُستخدم من أجل استحضار حالة من التناقض داخل النص فحسب، إنّما لأنّني عشتها، ورأيتها، ولمستها، وشممتها، وأضحكتني وأبكتني واكتويت بها. إنّها بمثابة رؤية الماضي في مرآة مقعّرة، أو رؤية الذات منعكسةً على سطح بئر عميقة.
لا يستطيع المرء تغيير كلّ شيء، لكن ربّما لأجريت قليلاً من التحوير، وإعادة التنظيم في خططي ومشاريعي وإيقاع عملي، وبالتأكيد لغيّرتُ مكان إقامتي، وحرصتُ على عدم هدر كثيرٍ من الوقت، وعدم دفع مثل هذه الفاتورة الباهظة في علاقتي مع العراق، حتى يأتي من هبّ ودبّ من اللصوص والمنافقين والدجالين والجهلة للخوض في دماء القتلى والمشرّدين والشرفاء، وتجيير تضحياتهم وحقوقهم المغتصبة لصالح نزواته ومطامعه الشخصية ومصالح أسياده.
إنّها لجريمة كبرى لا تُغتفَر في منع من تشرّدوا دفاعاً عن العراق، وشعبه، على مدى عشرات السنين، من العودة إلى وطنهم، والعيش فيه بسلام. نعم، لو استطعتُ لما هدرتُ هذا الوقت كله، ولقمتُ بتوجيه حياتي بصورةٍ أخرى. بيد أنّ هذا التغيير المفترض ما كان ليشمل الشعر، لأنّه هو من اصطفاني قرباناً له.
댓글