top of page
صورة الكاتبDellair Youssef

اليوم الأوّل في مخيم للاجئين في ألمانيا… كان أشبه بالعقوبة العسكرية

تاريخ التحديث: ٢٥ ديسمبر ٢٠٢١


توقف الباص الصغير أمام بناء كبير بالنسبة لبيوت القرية التي أُرسلنا إليها. كنا خمسة أشخاص: كرديّان من سوريا، امرأتان من إثيوبيا، ورجل أفغاني. قال لنا أول شخص رآنا، وكان سورياً: "هل خدمت في الجيش؟ هذا المخيم يشبه العقوبة العسكرية".


نزلنا من السيارة وأُدخلنا إلى غرفة فيها بعض المقاعد شبه المريحة. انتظرنا ونحن ننظر إلى وجوه بعضنا، لا نعرف ما ينتظرنا بعد قليل، لقد كنّا منذ ساعات قليلة في مخيم مؤقت في مدينة كارلسروه، يحوي عدداً كبيراً من اللاجئين، والآن هنا، في هذه القرية الصغيرة على ضفة نهر الراين، على الحدود الألمانية السويسرية، ننتظر مستقبلنا. يدخل لاجئون آخرون الغرفة ويخرجون دون أن ينظروا إلينا، يبدو أنهم يعرفون كل شيء هنا. انتظار طويل بدا كدهر. طُلب منّا بعد وقت ثقيل الدخول إلى الغرفة المجاورة. امرأة بيضاء في متوسط العمر تجلس خلف مكتبها، ورجل ضخم وآخر يغطي الشيب رأسه ويبدو كأنه المسؤول عن المكان.


بدأ الرجل حديثه بالألمانية التي لا نفهم منها شيئاً. قال كلمات قليلة، ربما كانت كلمات ترحيبية. ثم بدأت المرأة الجالسة خلف مكتبها بالحديث بإنكليزية لا يفهمها سواي، منا نحن الخمسة. حكت عن المكان الذي سيكون بيتنا في السنوات القادمة وعن مهماتها الإدارية وعن الأغراض التي ستُعطى لنا. قالت لنا إن اليوم هو الثلاثاء، وهو اليوم المخصص للذهاب إلى السوبرماركت الوحيد في القرية، واستلام الإيصالات الخاصة بكل منا، وشراء أغراض الأسبوع. كان كل لاجئ يحصل على إيصاله الخاص يوم الثلاثاء قبل الساعة الواحدة ظهراً بقليل من الرجل المسؤول عن مخيمنا، والذي كان يقف خلف طاولة في مدخل السوبرماركت، وإن لم يحضر المرء لأسبوعين متتاليين يتم إخبار الشرطة، ما قد يؤثر على ملف اللجوء الخاص بالشخص الغائب.


كان يحق لنا شراء احتياجاتنا من طعام وشراب وأدوات تنظيف بهذا الإيصال حتى الساعة الثانية والنصف من ظهر نفس اليوم، وإلا ضاعت علينا أغراض هذا الأسبوع، وقيمة هذا الإيصال تختلف من أسبوع إلى آخر لكنها تتراوح دائماً بين 25 و33 يورو. علينا بهذه النقود أن نشتري كل ما يكفينا لمدة أسبوع كامل، في النهاية طلبت المرأة منا أن ننتظر في الخارج، على أن يدلنا الرجل الضخم لاحقاً على غرفنا.


انتظرنا. جاء الرجل الضخم بعد دقائق وطلب من المرأتين أن تتبعاه. عادوا بعد وقت قصير، ومروا من أمامنا حاملين أغطية وأشياء أخرى لم أتبيّنها. عاد الرجل مرة أخرى بعد أن أوصل السيدتين إلى مكان سكنهما الجديد، وطلب منّا اللحاق به، أعطى كلاً منا غطاء ووسادة وصحناً وملعقة وشوكة وسكيناً وكأساً ووعاء للطبخ، وجعلنا نوقّع على أوراق استلام هذه الحاجات، على أن نعيدها أو ندفع ثمنها، عندما نغادر هذا المكان.


مشيت خلفه مع رفيقيّ. أدخل الألمانيُّ الأفغانيَّ إلى غرفة في الطابق الأرضي، ثم صعدنا معه نحن الكرديان إلى الطابق الثاني. أدخل زميلي إلى غرفة وأدخلني إلى غرفة مقابلة. دخل الغرفة قبلي، نظر إليّ وأشار إلى واحدٍ من ثلاث أسرّة في الغرفة، وقال كلمات لم أفهمها. صاح الرجلان اللذان كانا بالغرفة بأصوات عالية، فهمت أنهما يعترضان على مكوثي معهم. علا صوت الألماني ومن ثم استدار إليّ بوجه غاضب وأشار عليّ بالبقاء هنا، ثم خرج مغلقاً الباب خلفه. وجدت نفسي مواجهاً لرجلين لا يرغبان بوجودي، واقفاً في مدخل الغرفة الصغيرة ومعي حقيبة ظهري الكبيرة، وفي جيب معطفي الذي لا يقيني برد هذه البلاد، عشرة يوروهات، أعطاني إياها زميل غرفتي في كارلسروه، متقاسماً معي العشرين يورو التي يملكها. قال لي أحدهما إن لا مشكلة لهما معي، لكنهما لا يريدان شخصاً جديداً معهم في الغرفة. قالوا لي بإن عليّ العودة إلى المسؤول عن المكان وإخباره بأن يجد لي غرفة أخرى.


عدت وقلت، فغضب الرجل الضخم. عدنا إلى الغرفة وقال لهما إنني سأبقى رغماً عن إرادتهما. وضعتُ أغراضي الجديدة وحقيبتي فوق السرير. كانت الغرفة مربعة الشكل، تحتل النافذة الكبيرة نسبة إلى حجم الغرفة، معظم الحائط المقابل للباب، وأمامها وُضع تلفاز قديم اشتراه ساكنو هذه الغرفة بمبلغ زهيد، وكانوا، حين دخلت، يشاهدون نشرة الأخبار على قناة الجزيرة. على الجانب الأيمن مغسلة، وخزانة لها مفتاح، ستصبح خزانتي لاحقاً، وسرير طبقي، مثل أَسرّة السجون، كان السفلي من نصيبي. وفي الجانب الأيسر خزانة أخرى وسرير منفرد وبراد، وعلى الحائط الأخير الذي يحوي الباب يوجد رفٌّ عليه خبز وبصل وبطاطا. في وسط الغرفة كرسي كبير قديم مشقق يواجه التلفاز. غرفة صغيرة فيها أشياء كثيرة ويتقاسمها ثلاثة رجال. كان الآخران فلسطينيان سوريان، بعد شهور طويلة أصبحنا أصدقاء، وقبل أن أغادر ذلك المكان قال لي أحدهم إنني أفضل شخص سكن معه طوال حياته.


أردت أن أكتشف المكان، خرجت قليلاً. خفت من هذا المكان المجهول. عدت إلى الغرفة خائفاً من أن تضيع مني. لم يكن الرجلان هناك. جلست لدقائق فوق سريري الجديد أفكر بخطوتي القادمة. ماذا سأفعل؟ ماذا سآكل؟ أين دورة المياه؟ أريد أن أتبول؟ خرجت مرة أخرى باحثاً عن المرحاض... قابلت أشخاصاً من كل جنسيات العالم، هنوداً وباكستانيين، نيجيريين وأفغان ومغاربة وإيرانيين وعراقيين وصوماليين، قابلت بشراً من كل مكان. مكان صغير في قرية منسية في مكان بعيد يحتوي عشرات اللاجئين من أصقاع الأرض، ولا أحد يهتم بأمري. أين أنا؟ ومن أنا؟ لا أعرف أحداً وأستحي أن أسأل عن مكان أتبوّل فيه.


دام بحثي عن هذا المكان دقائق طويلة إلى أن وجدت المرحاض في آخر الطابق الذي تقع فيه غرفتي. الآن أستطيع التفكير. عدت إلى الغرفة. وقفت في منتصفها لا أعرف ماذا أفعل. سمعت صوتاً في الخارج يحكي بالكردية ويسأل آخرين: "هناك كرديان أتيا اليوم هل عرفتم مكانهما؟" خرجت مسرعاً وقلت بالكردية أنا أحدهم والآخر في هذه الغرفة. رحب بنا الأكراد القدماء، قال أحدهم إنّ علينا التوجه بسرعة إلى السوبرماركت فالساعة تقترب من الواحدة وعلينا تسلّم إيصالاتنا من أجل شراء الطعام.


ماذا عليّ أن أشتري؟ وكيف ستكفيني هذه النقود القليلة طعاماً لأسبوع كامل؟ في ذلك اليوم، وفي الأسابيع الأربعة اللاحقة، علمني قدماء الأكراد هناك كيفيّة شراء أشياء رخيصة جيدة تكفي أسبوعاً، باليوروهات القليلة التي يعطوننا إياها. وصلت عند طاولة الدفع، وضعت مشترياتي أمام البائعة وأعطيتها الإيصال الخاص باللاجئين. أشارت إلى الكيس الفارغ الذي أحمله بيدي، فتشَته خوفاً من سرقتي شيئاً. لم تفعل ذلك مع باقي المشتريين الألمان. عرفت لاحقاً أنهم يفعلون ذلك مع اللاجئين فقط، فهم لا يثقون بنا.


عدنا إلى البناء الذي سيكون بيتي لشهور طويلة وبيت آخرين لسنوات. قال لي أحد الأشخاص، الذي سيصبح لاحقاً أقرب أصدقائي في ذلك المكان، وكان اسمه أحمد، وهو كردي منحدر من منطقة عين ديوار الواقعة على الحدود السورية التركية العراقية: "ضع أغراضك في غرفتك وعدْ إلى هذه الغرفة، غرفته، سأصنع طعام اليوم على شرفك". وهكذا كان. بقيت أتناول الطعام في غرفة أحمد لمدة خمسة أيام إلى أن اعتدت الحياة في هذا المكان.


بعد أن طبخنا سوية، وتبادلنا الأحاديث المختلفة، وأكلنا وشربنا، عدت إلى غرفتي، وإلى زميليّ، من لم يرغبا بوجودي بادئ الأمر. تبادلنا أحاديث تعارفية صغيرة. تابعنا نشرة الأخبار. دخّنا بعض الماريغوانا. أخرجت حاسبي المحمول وفلاشة الثري جي، وأوصلت اللابتوب الصغير الذي أعطاني إياه أخي آخر مرة تقابلنا فيها في برلين قبل شهرين، بالإنترنت الذي سيبقى أخي يدفع حسابه كل شهر حتى انتهت حياتي في ذلك المكان. كنت الوحيد بين لاجئي آلبروغ من يملك كمبيوتراً وإنترنت، كانت هذه رفاهية غير موجودة في ذلك المكان.


بعد ساعات قضيتها أتصفح الأخبار وأحكي مع حبيبتي التي كانت تعيش في القاهرة آنذاك، قررت النوم. كان نهاراً طويلاً متعباً. وضعت أغراضي في الخزانة. أدرت المفتاح في القفل. حملت المفتاح في يدي وتمنيت في سرّي ألا أُسرق. لم يكن المكان يوحي بالأمان. وضعت المفتاح تحت الوسادة. التحفت غطائي الجديد، وبصمت بكيت.



١٠ مشاهدات٠ تعليق

Comments


bottom of page