top of page
صورة الكاتبDellair Youssef

"الاستبداد وسيادة العبوديّة والجهل وعدم تقدير العلم"... غابة الحق عند فرنسيس مَرّاش


بدأ عصر التنوير العربي، أو عصر النهضة العربيّة، في نهايات القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر، لا سيما في الفترة التي تلت الحملة الفرنسيّة على مصر، والتي حملت معها المطبعة إلى مصر ومنها إلى بلاد الشام. انتشار الطباعة والصحافة المكتوبة باللغة العربيّة ودور النشر، وإنشاء المدارس والجامعات، كانت الأساس الذي اعتمد عليه دعاة النهضة العربيّة، ممّا أدى لاحقًا إلى إنتاج أدبٌ عربيّ لأول مرة بعد قرون طويلة من انتشار اللغة التركيّة، كلغة رسميّة في الأقاليم العربيّة والكرديّة وغيرها، بفرض من الباب العالي ورأس السلطنة العثمانيّة.


استقى أدباء وسياسيو عصر النهضة أفكارهم بشكل رئيسي من الثورة الفرنسيّة التي اعتمدت على مبادئ الحريّة والعدالة والمساواة، وعلى أفكار مثقفي عصر النهضة الأوروبيون، وقد ساهمت البعثات الدراسيّة التي أرسلها محمد علي، حاكم مصر، إلى أوروبا في جلب تلك الأفكار إلى البلاد الناطقة باللغة العربيّة.


من أبرز مثقفي عصر النهضة والذين استمر تأثير بعضهم حتى اليوم، عبد الرحمن الكواكبي، صاحب طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، وبطرس البستاني وجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة ومي زيادة وفرنسيس فتح الله مرّاش.


فرنسيس مرّاش


"أمّا رأسه فكان متوجًا بإكليل عتيق الزي قد نخره صداء القدميّة، وعلى صدره لوح مكتوب فيه: هذا ملك العبوديّة".

فرنسيس مرّاش - غابة الحق


ولد فرنسيس مرّاش في مدينة حلب العثمانيّة سنة 1836 وتوفي فيها سنة 1874، ورغم عمره القصير استطاع مرّاش أن يترك أثرًا في الحياة الثقافيّة والسياسيّة خلال حياته، وفي السنوات اللاحقة، في تأثير امتد حتى أيامنا الحاليّة.


بحث مرّاش في أفكار الليبراليّة، وعلى رأسها الحريّة والتمدّن والقوميّة العربيّة وانتصار الخير والتقدّم ومحاربة الاستبداد، ولم يخف إعجابه بالحضارة الأوروبيّة واصفًا إياها بالتمدّن، ويقابلها "التوحّش" في المجتمعات العربيّة، وقد عرض ذلك في مقالته "التمدن والتوحّش".


أرجع مرّاش أسباب "التوحّش" إلى الاستبداد وسيادة العبوديّة وانتشار الظلم والجهل وعدم تقدير العلم، وإلى فساد الأخلاق وشيوع التكبّر والحسد والطمع والنقاق والخيانة، "فيا لسوء حظنا نحن بني المشرق، ويا لشدّة نحسنا لأنه إذا وجدت الصدف عندنا من له هوس ما في العلم عاش مقطوع الخرج، وربما يُحتقر ويُهان فلا ينال من علامات الشرف سوى الجهل به والسخريّة".


أقام فرنسيس مرّاش كامل نظامه الفكري على الحريّة باعتبارها أساسًا للتمدّن والتقدّم، وظهر ذلك في كتاباته، ولا سيما رواية "غابة الحق"، وكانت أبرز المبادئ التي بنى عليها نظامه الفكري، فضلًا عن الحريّة، الإخاء والمساواة والعدالة وحقوق الإنسان والمواطنة، بما يشابه إلى حد كبير مبادئ الثورة الفرنسيّة (1789-1799).


غابة الحق


"وإذا كان الفيلسوف مسترسلًا كلامه هذا، كان الجوق القائم ورائي يعوج ويموج بين الطرب والكرب ضاجًا بأصوات السلب والإيجاب، فكان هذا يقول: نعم، إنّ العبوديّة لا تُحتمل ولا يوجد أصعب على الطبع البشري منها، ولا أشنع من عادة اتخاذ العبيد."

فرنسيس مرّاش - غابة الحق


في روايته الصغيرة "غابة الحق" والتي لا تتعدى صفحاتها ذات القطع المتوسط المئة صفحة، يبدأ مرّاش سرد حلمه، معتمدًا هذا "التكنيك" من أجل طرح أسئلته الكبرى، فيقول إنّه، وعندما "غمرتني لجج الرقاد، وجدت ذاتي أتخطر في بريّة واسعة وكان يظهر لي عن بُعد غابة عظيمة ذات أشجار ضخمة عالية بأغصان متكاثفة الأوراق ملتفّة بعضها على بعض". وفي هذه الغابة التي يراها في الحلم يبني قصة روايته.


ينصب الكاتب في الغابة هياكل مملكة التمدّن القائمة على أركان الحريّة والحكمة، وشعارها "العقل يحكم، والعلم يغلب"، وفي مقابلة مملكة التمدّن تقع مملكة العبوديّة القائمة على مبادئ الجهل والكبرياء والحسد والبخل والضغينة والنميمة والكذب والخيانة.


في الرواية حوارات بين ملكة الحريّة وملكها، وبين الملك والفيلسوف، ومن أحداث الرواية وحواراته، يُظهر مرّاش رؤيته للمشروع النهضوي الذي يؤمن به، وبعد استيقاظه ينظر صوب المشرق فيجد الخراب والتأخر، فيما ينظر إلى صوب الغرب فيرى "الاخضرار يتموج من جانب الأفق"، لكنه ينهي الرواية بصوت قادمٍ من السماء يبشره بالخير والرخاء القادم، "أبشري أبشري يا بريّة آرام القديمة، وافرحي وابتهجي يا شهباء سوريا، فها العناية الملوكيّة مقبلة إليكِ، والمراحم السلطانيّة هاجمة عليكِ؛ فلا عاد يفترسك المحل أو يهتك بك الإهمال".


تأثير "غابة الحق" اللاحق على الصحافة

كانت الصحافة المكتوبة باللغة العربيّة في "عصر النهضة" العربي، بمثابة خشبة المسرح التي جرى فوقها تدفّق الأفكار الحديثة، والتعابير والمصطلحات اللغويّة التي أوصلت معاني النهضة والقوميّة العربيّة إلى الرأي العام، فساهمت في صياغته وتشكيله. وكانت صحف "الوقائع" و"مرآة الأحوال" وغيرها، من أكثر الصحف تأثيرًا على الحياة العامة في بلاد الشام ومصر.


تظهر بكثرة أسماء "عبد الرحمن الكواكبي" و"رفاعة الطهطهاوي" و"محمد عبده" و"رزق الله حسّون" و"عباس العقّاد" و"شبلي شميل" وغيرهم، كأبرز أعلام حركة النهضة العربيّة، لكن يُضاف إليهم بكل تأكيد اسم "فرنسيس فتح الله مرّاش".


تميّز فكر مرّاش، والذي بدا واضحًا في رواية "غابة الحق" بتأثره بالثقافة الأوروبيّة وانبهاره بها، فدعا إلى القيم التي تبنتها الدول الأوروبيّة، والمثقفين الأوروبيين، وبدوره أثرّ على المثقفين الذين أتوا في زمانه، وبعده، ممن اتخذوا من الصحافة منبرًا لهم.


أدرك النهضويون ومن بعدهم، بتأثير مباشر أو غير مباشر من رواية غابة الحق، أنّ "التمدّن" الجديد يختلف عن الحياة السابقة، وإنّه أصبح حداثة كونيّة كوزموبوليتانيّة لا هويّة قوميّة لها، يعتمد على أسس العلم والحريّة والصناعة (بتأثير من الثورة الصناعيّة) وفصل الدين عن الدولة، وفصل العلم عن الدين، وإنّ العقل إمام، وذلك رغم خصوصيّة المجتمعات الناطقة بالعربيّة، المُشبعة بالثقافة الإسلاميّة.


رسّخ مرّاش مبادئ الحريّة والفكر عبر كتاباته، وربما كانت رواية الأكثر انتشارًا "غابة الحق"، قد عملت، بقصد أو بدونه، على ترسيخ هذه المبادئ في الثقافة العامة، وضمنًا في صحافة بلادنا في ذلك الزمن، وصولًا إلى زمننا الحالي، الذي (ربّما) ينقصه رواد وأعلام "ينهضون" بالبلاد من "الديستوبيا" التي تغرق فيها منذ سنوات طويلة.



المراجع

  • غابة الحق - مرّاش، فرنسيس.

  • مقالة التمدن والتوحّش - مرّاش فرنسيس.

  • الحرية و التمدن في فكر فرنسيس مراش - مجدي فارح.

  • فرنسيس المراش واحد من أبرز النهضويين الشوام - ماهر الشريف.

  • مرجعيات عصر التنوير في يوتوبيا فرانسيس المرّاش - زهير توفيق.

  • الصحافة والحداثة والتمدّن الجديد - كندة السمارة.


٧ مشاهدات٠ تعليق

Comentarios


bottom of page